العلم والمعرفةاللسانيات والعلوم البينية

التأويل والأنطولوجيا (مدخل موجز جدا)

يدعو “هايدجر” إلى العودة الضرورية السابقة على تكنيك التأويل؛ ويُسَمِّي ذلك باللحظة الأكثر بداءة، وهي اللحظة السابقة على كل أشكال الفكر الحاضر من أجل إدخال التأويل في حوار ودي وأساسي مع الجهود الكبرى السابقة، بهدف فهم معنى الوجود، فهذا الإصغاء البدئي هو إصغاء تأويلي، لأنه إصغاء إلى النصوص، فالرسالة التي يتعين على المَرء أنْ يُؤوّلها هي مذاهب أسلافه وتفكيرهم؛ فوجود الإنسان بوصفه إنسانًا هو أنْ يوجد بين النصوص inter-textually؛ فيُسهم- بهذا- في سلسلة التأويلات اللانهائية التي تُشكل تاريخ فهم الوجود.

التأويل والأنطولوجيا

الأنطولوجيا (علم الوجود) هو أحد الأفرع الرئيسية للفلسفة؛ إذ يشمل المبحث الخاص بالوجود وتأويله. وفي الاستعمال الحديث، كثيرًا ما يُستخدم المصطلح (أنطولوجيا) للدلالة على (نظرية الموضوعات)، لا سيما (النظرية الصورية)؛ فيتطابق- من هذه الجهة، وكما يرى “هايدجر”- مع الأنطولوجيا القديمة (الميتافيزيقا).

 لقد كان البحث في الوجود منذ البداية مُنصَبًّا على فهم (الكون) وما فيه من غوامض وأسرار، فقد كان (الكون)- وما زال- موضوعًا رئيسيًّا في الفلسفة، وفي مختلف العلوم؛ فالكون هو الموضوع المادي للعلوم المخصوصة، وأغلبها العلوم الطبيعية، لكنه اندرج أيضًا ضمن مباحث نظريات الثقافة والدراسات البينية المختلفة؛ فدراسة العالَم وتأويله هي مركز معظم الأطروحات الأكاديمية المهتمة بالفهم والتفكير خصوصًا.

ومن الجهة الفلسفية المحضة، يرى “أرسطو”- على سبيل المثال- أنّ الكائنات الحية تحتاج إلى الألسنة لأجل التذوق، ولأجل المحاورة (عند الإنسان). والتذوق يُمثل كيفيةً ضروريةً لديها لأجل المعاشرة (فهو موجود لدى أكثرها). لكنّ التوجه إلى الآخرين ومخاطبتهم في أمر ما (التحاور حول شيء ما) يكون من أجل تأمين الوجود الأخص للكائنات الحية في عالمها وبواسطته.

إنّ الـــ (هيرمينيا) hermé  تقوم- ببساطة- مقام الـــ (ديالكتوس)؛ أي المحادثة والمحاورة. فالكلام عن شيء ما في العالَم يجعل الموجود جَليًّا ومُتاحًا أمام الحَوز الحَدْسي للموجودات.  

ويرى “فيلهيلم ديلتاي” Wilhelm Dilthey (1833-1911م)- فيلسوف الحياة- أنّ الحياة الباطنية لدى الإنسان لا تجد فيما عدا اللغة تعبيرها الكامل والشامل والمعقول موضوعيًّا؛ حيث يتخذ “ديلتاي” المنحى السيكولوجي في تأويل الأشياء وفهمها. لكن مع ظهور كتاب (الوجود والزمان) لهايدجر، ينفصل الفهم عن كل إدراك لشعور غريب عن الذات، ليُؤوَّلَ بألفاظٍ أنطولوجية، حيث يكون الفهم أحد مكونات (الدازين Dasein) [أي: كينونة الموجود الإنساني]؛ فالدازين- وفقًا لهايدجر- ليس شعورًا، بل هو كائنٌ في العالَم، يتساءل بشأن الكينونة، انطلاقًا من أوضاع ومشاريع عينية على أساس من التناهي والفناء. وبذلك، فإنّ كل قراءة لــ
(نَصّ الوجود)
تمثل “فيلولوجيا” واسعة. ومن هنا ينطلق “جادامير”- فيما بعد- نحو تأويلية منفتحة؛ حيث يميز قوة الحقيقة التي يتضمنها الفهم عن كل منهج بحث وكل تقنية؛ فالفهم ليس منهجًا مُكَمّلا لمناهج علوم الطبيعة، حيث فشل “ديلتاي”- كما تقول الباحثة “نبيهة قاره”- في تقسيمه للمنهج العلمي، ومقابلته بين (علوم الروح) و(علوم الطبيعة)، فمن الأفضل- وفقًا لجادامير- المخاطرة بمعارضة أكثر جذرية بين (الحقيقة والمنهج)، بحيث إنّ البنية المشتركة التي تُوحّد الظواهر التأويلية تتمثل في مقاومة الحقيقة والمعنى للاقتحام العلمي.

إنّ الهيرمينوطيقا اليوم ترتبط بـــ (البراكسيس Praxis)؛ أي: بــ (الممارسة)؛ فلا يمكن التوصل إلى فَهم حَقيقي لكيفية معرفة الإنسان الأشياء المحيطة به من دون الإلمام بموضوع الممارسة التي تُغني المعرفة وتُنمّيها.

تشمل الهيرمينوطيقا أزمة معنى، والعصر التأويلي للعقل يتميز بــ البحث عن المعنى
في أزمة المعنى
. ومثل هذا المشروع يعيد الاعتبار للفعل الإنساني، ويعيد- أيضًا- فهم البشرية من خلال الفعل، بوصفه فِعلا إبداعيًّا متناهيًا، ومنفتحًا على العالَم وعلى الآخَر، بحيث تجتازه اللغة من كل جهة.

وتأكيد العلاقة الأساسية الأصلية بين الفعل والقول هو المكسب الأول لـــ (هيرمينوطيقا البراكسيس). هذا المكسب لا يتمثل فقط في اكتشاف أنّ أقوالَنا هي في حد ذاتها أفعال، وإنما في أنّ أفعالَنا يمكن قراءتها على منوال نصوص يجب تفكيكها وتأويلها.

ملاحظات

– تعني كلمة hermé (اليونانية) القول والتعبير والتأويل والتفسير.

– يدل (البراكسيس) Praxis– كذلك- على مجموع النشاط الإنساني، أو الخبرة الكلية للإنسانية عبر تاريخ تطوّرها.

المراجع والإحالات

فاطمة إسماعيل: مقالات في فلسفة التأويل، الهيئة العامة لقصور الثقافة، سلسلة الفلسفة، العدد 36، طـ 1، 2019. 

مارتن هايدجر: الأنطولوجيا، تأويليات الحدثية، ترجمة محمد محجوب، مؤسسة مؤمنون
   بلا حدود للدراسات والأبحاث، بيروت، طــ 1، 2019.

– نبيهة قاره: الفلسفة والتأويل، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، طــ 1، 1998.

د. عبد الرحمن طعمة

أستاذ اللسانيات والدراسات الثقافية المقارنة، كلية الآداب، جامعة القاهرة

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
زر الذهاب إلى الأعلى