العلم والمعرفةدراسات وأبحاثقصص عالميةقصص وحكايات

تعرَّف على دوستويفسكي وروايته الإنسان الصرصار

يعتبر فيودور دوستويفسكي الكاتب الروسي الأعظم على الإطلاق وهو من الكُتّاب الأغنياء عن التعريف، وكثيراً ما نسمع بالكثير من الأدباء الذين يثيرون ضجة كبيرة وشهرة واسعة، فإذا قرأنا لهم خاب أملنا ولم نجد ضالّتنا.

إلا أن دوستويفسكي قد تخطى ذلك، فمتى ما قرأت له نسيت أنه كاتب أو أديب ونسيت أنك تقرأ لتجد نفسك غارقاً في عالمه رغماً عنك ومتقمّصاً لكل دور من شخصياته. حينها سيكون دوستويفسكي مرشدك ومعلّمك وطبيبك وصوت الأنا في داخلك.

عن دوستويفسكي والنفس البشرية

إن أكثر ما يثير الغرابة في النفس البشرية عدم قدرتها على إدراك نفسها وفهم مكنوناتها وحدها، لكن ما إن تقرأ كلماته وتغوص في هذا السبر المخيف لأعماق دواخلك حتى تبدأ بفهم نفسك ومن حولك. وإنني لأرى أن تفهم نفسك لهو أفضل وأعظم من أي شيء آخر. كما أنه أصعب ربما لأنك غالباً لا تشاهد نفسك من الخارج لا تشهد على تصرفاتك كشاهد حيادي. مما يجعل من الصعب إدراك الحقيقة والخير والشر في نفسك.

دوستويفسكي ودوافع الجريمة

قد تتابع أحد البرامج التلفزيونية فترى مجرم يقوم بجريمته فيثيرك الحماس لترى كيف ستكون النهاية والأحداث التي ستجري ولكنك لن تشعر بأي ارتباط بينكما أو أي تشابه، حتى أنك ستكون مدركاً أن ذلك ليس سوى تمثيل.

لكنك حين تقرأ عن هذا المجرم في رواية “الجريمة والعقاب” ستشعر أنك هو، ستشعر بالحمى حين تصيبه وسيدور رأسك حين يشعر بالدوار كما ستنفعل معه.

وذلك إن دلَّ على شيء فهو يدل على عبقرية دوستويفسكي في سبر أغوار النفس البشرية وفي إيجاد الدوافع والأسباب الموجودة في كل شخص فينا. عبقريته في وصف الأخلاق والإيمان والحب والإخلاص والمبادئ. وفي وصف الدوافع التي قد تجعل من أي شخص قاتل أو حقير أو رفيع وهي دوافع موجودة في كل نفس وغير محصورة بالخطوط العريضة المتعارف عليها لكل من هذه التصرفات. وهو وحده من قدر على تحليل ومناقشة أشياء كهذه حتى وقتنا الحالي.

دوستويفسكي والتفاصيل

يقول أحدهم لا يزال الكاتب هاوياً إن قال في كلمتين ما يمكن قوله في كلمة واحدة.

لكن ذلك حتماً لا ينطبق على الكاتب حين يصف أفكارك الداخلية ومشاعرك، فأنت تمضي عمرك كله غارقاً في تلك الأفكار وتلك المشاعر المتناقضة والمتنازعة داخلك وهي ما ستحدد كينونتك وطريقك وحياتك. لذا فإن الإسهاب في التفاصيل من أهم ما يميز دوستويفسكي وهو الأساس الذي يجعل منه معلماً وفيلسوفاً ويجعل منك غارقاً في عالمه.

هناك الكثير لقوله عن دوستويفسكي الذي عانى كثيراً في طفولته وفي شبابه وفي نوبات الصرع التي كانت تنتابه، وفي حيه المليء بالفقر والظلم والجرائم، ووالده الاستبدادي، والمرضى الموجودين في مشفى الحي حيث كان يحب الاستماع إليهم، كما أنه قد قارب الموت وحتماً لا يكون شخصاً عادياً من نجى من الموت في آخر لحظة.

فقد تم سجنه بسبب اتهامه بأنه ضمن جماعة التفكير المتحرر وتم حكمه بالإعدام لكن بآخر لحظة تغير الحكم من حكم بالإعدام إلى نفي وسجن لمدة 4 سنوات مع الأعمال الشاقة في سيبيريا.

تقرير عن رواية دوستويفسكي رسائل من تحت الأرض (الإنسان الصرصار)

وأما عن روايته “رسائل من تحت الأرض” أو “الإنسان الصرصار” التي تم نشرها عام 1864م، فتعتبر أول رواية فلسفية وجودية في التاريخ وفيها يشرح دوستويفسكي أفكار ومشاعر قد نستهجنها ونشعر ببعدها عن الواقع لكنها داخل كل شخص فينا وتختلف كيفية التفكير فيها والتصريح عنها من حالة لأخرى.

وسأسرد بعض الاقتباسات والأحداث والأفكار التي تم طرحها في الرواية.

تدور أحداث الرواية حول شخص مجهول كان موظف وترك وظيفته بعد أن ورث 6000 روبل عن أحد أقاربه، يكتب مذكراته ليس للنشر بل من أجل أن يتحقق فيما إذا كان الإنسان يستطيع أن يكون صادقاً كل الصدق مع نفسه.

وتتألف الرواية من جزأين، الجزء الأول بعنوان تحت الأرض والجزء الثاني بعنوان مهداة إلى الثلج الندي.

تحت الأرض

ويستهل الجزء الأول من روايته، والذي يتكلم فيه عن نفسه، بالسؤال: ترى ما الذي يستطيع أن يتحدث به الإنسان السوي ويحس بأعظم المتعة؟

الجواب: أن يتحدث عن نفسه.

يبدأ الحديث عن نفسه بأن يصف نفسه بالحاقد، وبأن ما يميز حقده هو شعوره بالخجل من هذا الحقد.

ويعتبر أن الإدراك مرض وأنه يكفي للإنسان لكي يعيش أن يتمتع بربع إدراك المثقفين.

وهو لا يقلل بذلك من الناس العاديين غير المثقفين بل يصف المثقفين بالمرضى.

ويقول: “لا يكفي أن تدرك ما هو الخير ولا يكفي أن ترغب بفعله، فكثيراً ما نشعر برغبة بفعل شيء جيد لكننا لا نستطيع، لا نستطيع إلا أن نكون أنذال رغم إدراكنا أننا لسنا كذلك وأننا لا نريد ذلك”.

مصلحة الإنسان ليست هدفه الأوحد

يرى هذا الموظف أنه من الغباء الاعتقاد بأنه لو عرف الإنسان مصلحته لن يفعل أي شيء يمكن أن يضر مصلحته تلك، فليس كل قرار يتخذه الإنسان يتوافق مع مصالحه ولعل هذا ما يميزه عن كونه ليس مفتاح بيانو.

ويذكر مقارنة متعلقة بهذا الموضوع، وهي أن “بوكل” أكّد على أن البشر يصبحون كلما أوغلوا في الحضارة أشد نعومة وهكذا يصبحون أقل تعطشاً للدماء وأقل استعداداً للحرب.

لكن إذا أخذنا مثال القرن 19 كله الذي عاش فيه “بوكل” ولنأخذ نابليون العظيم ونابليون الحاضر أيضاً. وشمال أميركا ومهزلة شليزفيك هولشتاين. فما هو هذا الذي تزيده الحضارة نعومة فينا؟

إن كانت هذه الحضارة لم تزد من تعطش الإنسان للدماء فقد جعلت هذا التعطش أشد شراً وأكثر قذارة.

وهو من خلال هذا المثال يؤكد على أنه لا وجود لحياة يحكمها العقل والمنطق فقط.

فليس هدف الإنسان الوحيد أن يحمي نفسه من البلل، وليس هدفه الفوز. بل هدفه الاستمتاع باللعب والإثبات لنفسه في كل لحظة أنه إنسان وليس جماد.

ولا يكون ذلك باتباعه كل ما يوافق المنطق ومصالحه، بل يكون بتحدي ذلك مهما كلّف الأمر.

فهو بذلك ينقاد لرغبته غاضاَ النظر عن مصلحته، وفي ذلك كله تتمثل لنا الشخصية أو الفردية.

مهداة إلى الثلج الندي

أما في الجزء الثاني من الرواية، يصف الكاتب بعض أحداث حياته التي أثرت فيه تأثيراً شديداً، وهو يرويها في مذكراته ربما غسلاً للعار الذي يشعر به تجاه هذه المواقف.

أو ربما ليستطيع أن يجد تبريراً أو أن يفهم نفسه لماذا وكيف قد تصرف تلك التصرفات يومها.

الموظف والضابط

أحد هذه المواقف كان شعوره بالحقد تجاه ضابط كان قد أبعده عن طريقه، دون أن يعيره أي انتباه. وبعدها كلما صادفه في الطريق أفسح الطريق لذلك الضابط بشكل تلقائي وكأنه مجبوراً على ذلك.

قد تجد أنه من المبالغ فيه أن يمضي الشخص أياماً وليالي وسنوات من أجل حادثة تافهة كإفساح المجال لشخص أعلى منه مرتبة ليمر في الطريق، لكن إن فكرتم بها ستجد أن كل شخص فينا قد أمضى أياما وليال وشهور في التفكير والتخطيط والامتعاض من أجل حادثة تافهة أو كلمة قد لا يكون الطرف الآخر قد انتبه لحدوثها حتى.

غالباً ما يكون ذلك بسبب ما نحمله لأنفسنا بأننا أقل من غيرنا أو أنه تم استغلالنا بطريقة ما أو أن ظلماً قد وقع علينا ولم نستطع الدفاع عن ذلك حتى ولو كان الأمر محض مصادفة.

إن أفكار النفس البشرية خصوصاً عندما تكون وحيد ولا تشعر بأنك تقدم أي شيء فيه خير أو فائدة؛ يمكن أن تأخذك إلى أحلك الأماكن.

حين يشعر الانسان بالنقص بشيء ما بداخله أو بمظهره فسيشعر أن ذلك النقص هو محور الكون وأن كل الأحداث تدور حوله، رغم عدم اكتراث أي شخص أو عدم انتباه أي شخص آخر لذلك.

الموظف وزملائه في المدرسة

كحادثة الروبلات السبعة حيث ذهب للعشاء مع زملاء دراسته من أجل وداع صديق لهم ورغم أنه لم يكن أحد منهم صديقه بحق إلا أنه أقحم نفسه في هذا العشاء ودفع كالبقية سبع روبلات فقط ليثبت أنه مثلهم وأن المال لا يهمه رغم عدم اكتراث أي شخص من الحضور له أو لهذا الموضوع.

وأعتقد أنه في حالات كهذه يكون الإنسان رغم كل فظاظته وقساوته التي يظهرها ظناً منه أنها قادرة على إخفاء ما يشعر فيه من نقص يكون هشاً حد التفتت، قابلاً للإرضاء كطفل صغير لو أن أحداً فهم أن فظاظته هذه وغرابته تلك ما هي إلا تعويض يائس عن نقص يهشِّم راحة باله واستقراره النفسي.

ولعل وحده من يشعر بنقص كبير هو من يثرثر ويعطي محاضرات في ذلك النقص وكأنه متخصص في هذا المجال.

فتاة الليل ليزا

يقوم كاتب المذكرات وهو في حالة سُكر واضطراب بعد تعرضه للإهانة وبعد وصوله لقعر الانحطاط والذل، بالانهيال بالنصائح والحكم والمحاضرات على فتاة ليل تدعى “ليزا” كان قد التقاها مصادفة وهو في تلك الحالة ليحيي فيها أملاً بالحرية والحب والشرف وهو الفاقد لكل ما سبق.

يزرع فيها أملاً ويمضي، كثيراً ما يمكن لكلمة قالها غريب غير مكترث أن تحدث أثراُ وأن تغير طريقاً إذا ما أخذناها على محمل الجد.

وحين تأتي إليه إلى بطلها محمولة بالحب تجد أنه لم يكن سوى مفتقد لكل ما أسهب في الكلام عنه، وأنه ليس سوى مضطرب.

يرى الحب امتلاك وسيطرة وخنوع، وبعد أن يلقى ما يريده من خنوع من الطرف الآخر سيكرهه ويمل منه.

رغم كل كلامه بأن الحب هو السبيل وبأن الإنسان الذي يذكره بعد مماته ابن أو أب أو زوج هو الإنسان الذي عاش بحق.

فهو لم يستطع أن يعرف الحب يوماً. ولا أن يكون لديه من يزور قبره بعد وفاته أو أن يحيي ذكراه.

فهو رغم شعوره بالحب مع ليزا ورغم أنها قد جاءته مبادِلة له تلك المشاعر ومتقبّلة للعيش معه كما هو، قد عاد للضياع في دوامة التناقضات والمشاعر بين حاجته للحب والرفقة وبين كبريائه وقساوته التي يغطي بها تلك الحاجة لئلّا يبدو بمظهر المحتاج ولو حتى لعاطفة. فقرر أن يجرحها ويبتعد عن الفرصة الوحيدة التي كان من الممكن أن تغير حياته. إذ أنه يفضّل البؤس على أن يكشف نفسه أمام أحد آخر، فهو حين انكشف أمامها أدرك أنه سيكرهها بعد ذلك لا محالة.

شعور الإنسان بالخجل من مكنونات نفسه، والرغبة في الهروب من أي شخص يمكن أن ينكشف له، من أكثر التعقيدات التي تصاحب النفس البشرية وتعقّد الحياة وتجعلنا وحيدين بائسين.

رأي أخير

لا شك أن طفولته الخالية من حنان الأبوين، كان لها هذا الأثر الكبير في حياته. لكن لا يمكننا أن ننكر بأن له دور كبير بتمسكه بتلك الأفكار والمبادئ والأحلام التي يحيا معها في خياله معتقداً أنه أذكى من الجميع وأن إدراكه ذاك هو ما يعذبه ويجعله مختلف وغير متأقلم.

لكن ربما الحياة تستحق منا بعض التغاضي والتساهل لكي نستطيع أن نحيا بها. فلكل منا شخصيته وفرديته التي قد لا تتوافق مع محيطه لكن ميزة الإنسان والتي تكون أحياناً أحد سيئاته، هي التأقلم وعلينا استغلالها لنحيا مع المجتمع المحيط بنا بسلام بدلاً من أن ننعزل تحت الأرض.

لماذا قد يعرف الإنسان الحقيقة ويعرف ما يتوجب فعله لكنه لا يفعله؟ قد تظنون ذلك من الغباء والسذاجة غير الموجود إلا في الروايات لكن للأسف فكل منا قد تعرض ولو مرة واحدة لمثل هذه المواقف في حياته. وأعتقد أن الرغبة التي غالباً ما تتعارض مع مصالحنا لها الدور الأكبر في ذلك.

يقول ماريو بوزو في رواية العراب: “إن المرء يفعل أشياء يجب أن تُفعل، ولكنه لا يتحدث عنها أبداً، إنه لا يحاول أن يبررها، يفعلها، هذا كل شيء ثم ينساها”.

تحوي الرواية على الكثير من الأفكار والفلسفة والاقتباسات التي لن تغنيك عنها قراءة هذا التقرير عن رواية دوستويفسكي. كما هو الحال بالنسبة لأعمال دوستويفسكي الكبيرة كالجريمة والعقاب والأخوة كارامازوف وغيرها. فالتفاصيل التي يسردها هي التي تستطيع أن توضح لك تلك الأفكار وهي التي ستأخذك بجولة إلى أعماقك التي لم تكن قد زرتها يوماً من قبل أو عرفت بوجودها.

تحميل الرواية

تحميل رواية رسائل من تحت الأرض

هبة الله الدالي

مهندسة طاقة كهربائية، ومحررة، وكاتبة محتوى إبداعي ومتوافق مع محركات البحث في جميع التخصصات.

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
زر الذهاب إلى الأعلى