العلم والمعرفةاللسانيات والعلوم البينية

اضطرابات الذهن وتفسير الواقع (نماذج تمثيلية)

تختلف أعراض اضطرابات الذهن وأسبابها من حالة لأخرى، حسب حالة الشخص وحسب المنطقة المتضررة أو المصابة. وفي هذا المقال نوضح لكم بعض أنواع اضطرابات الذهن موضحة بالأمثلة المتعلقة بكل منها وتفسير لكل حالة.

1- في عمليات إزالة نصف الدماغ الشهيرة hemispherectomy يُعتمد على مرونة الدماغ وطواعيته العصبية plasticity، خصوصًا في السن المبكرة، لأنّ دماغ الصغار يكون قادرًا على تكييف النصف الآخر للقيام بوظائف النصف المُزال. والسبب الطبي المقرر لهذه العمليات هو أنّ دماغ الطفل (عادة 3 سنوات) يكون مصابًا في جزء منه، بما يؤدي إلى حدوث نوبات مرضية تشنجية seizures.

ومن أسباب إزالة أحد النصفين الكُرويين- أيضًا- ما يُعرف بالتهاب “راسموسين” الدماغي Rasmussen’s encephalitis، وهو مرضٌ عصبيٌّ نادرٌ، يحدث للأطفال دون سن 15 عامًا، تصاحبه تشنجات وفقدان القدرات الحركية وفقدان النطق Anarthria- وهو ما يهمنا هنا بالضرورة- وشلل نصفي على الجانب نفسه من الجسم ipsilateral أو الجانب المقابل contralateral. والأسباب الباثوفسيولوجية pathophysiology الخاصة بالمرض غير معروفة، فهو يندرج ضمن الأمراض ذات العلة الذاتية المجهولة idiopathic أو الأمراض المجهولة الأسباب عمومًا protopathic.

2- هناك اضطراب شهير يسمى بـــ (اضطراب إنكار العاهة) Anosognosia؛ حيث تجد مريضًا قد فقد القدرة على تحريك ذراعه الأيسر مثلا، وعندما تطلب منه رفع يده اليمنى يرفعها دون أي مشكلة. لكن عندما تخبره بأنْ يرفع يده اليسرى يقول أيضًا: لا مشكلة! من دون أنْ يحركَها، وعندما تسأله: لماذا لم تحرك يدك اليسرى؟ فبدلا من أنْ يقول: لا أستطيع تحريكها! يقوم باختلاق أي عذر confabulation، من مثل: لم أكن أريد فعل هذا! لتلاحظ هنا أنه يدير الموقف كله من خلال (حِيل لغوية)! وهذه الحِيل تسيطر على دماغه وتجعله مضطربًا وغيرَ مدرك للموقف الوجودي عمومًا.

يوضح المخطط الموالي أنّ الفشل في إدراك العيوب الحسية، خصوصًا في حالة اضطراب إنكار العاهة، ربما يعود إلى الانفصال ما بين المراكز العصبية الحسية ومراكز الرصد والمراقبة sensory monitor؛ أو تدمير مركز ما من هذه المراكز، أو انفصال أحد مراكز الرصد أو المراكز الحسية عن مراكز اللغة والكلام، بما يؤدي إلى المراوغة والاختلاق.

اضطرابات الذهن وتفسير الواقع (نماذج تمثيلية)

3- هناك اضطراب شهير آخر هو (متلازمة “أنطون بابنسكي”) Anton Babinski Syndrome، وتُسمى كذلك بــ (عمه إنكار العاهة البصري) Visual Anosognosia. وتكون الأعراض نتيجة الإصابة في الفص الدماغي العنقي (القذالي) Occipital.

وهو اضطراب أكثر درامية من الاضطراب السابق (إنكار العاهة)؛ فالمصابون به هم أشخاص مصابون بالعمى الكلي، لكنهم ينكرون أنهم عميان! فإذا سألتَ أحدهم وأنت ترفع يدك: كم أصبعًا أرفعُ؟ فسيقوم مباشرة بالتخمين، فإنْ أخطأ يختلق عُذرًا لتبرير الإجابة الخاطئة! من مثل: معذرة ليست معي نظارتي!

إنّ المصابين باضطراب إنكار العاهة بمختلف صورها- على سبيل الإجمال- وعلى الأرجح، كانوا مصابين بسكتة دماغية STROKE، ولذلك فهناك انفصال بين مجال خبرتهم وتجربتهم الحقيقية عن وعيهم وإدراكهم بهذه الخبرة؛ فمرضى متلازمة “أنطون” لا يعرفون أنهم لا يمكنهم الرؤية، لأنّ المحطة النيورونية التي تتحكم بالمُدخلات البصرية لا تُخبر الدماغ بأي معلومة! حتى إنها لا تخبر الدماغ بأنه لا يوجد مُدخل أو مثير بصري Visual input/stimulus! ما يعني أنّ المركز العصبي المسؤول عن الرد أو اختلاق محادثة يجب عليه أنْ يُنشئَ بصورة تامة ومحبوكة ردًّا مُراوِغًا مُختَلَقًا confabulated response.
وهنا تتحَكَّم اللغة في دماغ المصاب، وتَحْكُم تصوراتِه حول العالم المحيط به.

المراجع والإحالات

– Bien, CG: “Pathogenesis, Diagnosis and Treatment of Rasmussen Encephalitis: a European Consensus Statement”. Brain. 128 (Pt 3):
Pp 454–471. 2005.
– George Prigatano and Daniel Schacter (editors): Awareness of Deficit after Brain Injury: Clinical and Theoretical Issues, Oxford University Press, New York, Oxford, 1991.
– Macdonald Critchley: “Modes of reaction to central blindness”, in Critchley, 1979.

د. عبد الرحمن طعمة

أستاذ اللسانيات والدراسات الثقافية المقارنة، كلية الآداب، جامعة القاهرة

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
زر الذهاب إلى الأعلى