العلم والمعرفةاللسانيات والعلوم البينية

تقرير “سلون” 1978م وبزوغ العلوم البينية

أسْهم التفكير الفلسفي على مدى عقود في تطوير أنماط القضايا المطروحة للجدال على ساحة المعرفة الإنسانية؛ فتَتبُّع مسار التطور الأنثروبولوجي للفكر الإنساني وللغة الإنسانية هو من أخطر القضايا العلمية المعاصرة، ولا يمكن القول إنها ستصل إلى نهاية حتمية يومًا ما.

مستويات التفكير في طبيعة المعرفة الممكنة

وإجمالًا، فإن التفكير في طبيعة المعرفة الممكنة يمكن أنْ يحدث على ثلاثة مستويات([1]):

المستوى الحيوي أو البيولوجي Biological

ويتمثل في الدماغ بوصفه شبكة نظامية مُكونة من ملايين النيورونات Neurons المترابطة، التي تشكل خلفية البناء الفكري للذهن الإنساني.

المستوى التمثيلي (أو الإدراكي) Perceptual

ويتأسس حول بحث كيفية تمثيل المعرفة الموجودة في العالم وبلورتها بصورة مفاهيم داخل الدماغ، وهو الأمر المعروف بمصطلح التمثيلات الذهنية Mental Representations.

مستوى المعالجة المعلوماتية Information Processing

وهو الذي ينظر إلى الفكر بوصفه نسقًا مجردًا لمعالجة المعلومات؛ حيث يكون التركيز على دراسة كيفية انتقال المعلومات داخل الشبكة النيورونية بوصفها نسقًا وظيفيًّا، من دون الإحالة إلى ما تمثله المعلومة خارج الدماغ (استعارة الذهن – الحاسوب). علمًا بأنّ المعالجة المعلوماتية بنمطيها: الإدراكي (إدراك شيء ما) والرمزي (فهم الجملة وتمثيلها العصبي وتخطيطها الذهني) كل هذا يحدث من خلال منظومة من المقولات Categories والمفاهيم Concepts التي تتحكم في تمثيل العالم وتنميطه ونمذجته داخل ذهن الأفراد من بني الإنسان([2]).

وكل هذه المستويات لا يمكن البحث فيها بمنأًى عن فهم الظاهرة اللغوية وسيروراتها العرفانية وتداخلها القوي المتشابك مع مختلف العلوم؛ فلا يمكن دراسة المفهوم الأكبر (العقل) من دون بحث المقولة المركزية داخله (اللغة).

بدأت دراسة العلاقة الوطيدة بين اللغة- ضمن علم اللسانيات- وغيرها من المعارف والعلوم عام 1978م، من خلال التقرير الشهير حول وضع علم المعرفة (بالمصطلح الشامل)، بما يشمله من حقول وبينيات وأفرع … إلخ، وهو التقرير المعروف باسم (تقرير “سلون”)
Sloan Report، الذي تم بناءً على طلب من مؤسسة “ألفريد سلون”، لأجل دراسة الحقول الموحّدة التي يتشكل منها مجموع العلوم والمعارف، التي تتآزر لأجل البحث في طبيعة المعرفة الإنسانية وتاريخ الجنس البشري. وقد التقت لجنة العمل به في مدينة “كانساس” الأمريكية، وضمّت حلقات ونقاشات شملت علماء نفس ولسانيين وعلماء أعصاب وفلاسفة وأنثروبولوجيين وعلماء حاسوب ومعلوماتية.

ومنذ وقت صدوره انطلقت الثورة المعرفية بخُطًى هائلةٍ للبحث في علوم الدماغ وتاريخ الفكر وتطور الإنسان … إلخ. وبرأيي، فإنّ التقرير يُمثل أقوى ردود فعل المجتمع العلمي على الطرح الكبير (بنية الثورات العلمية) للعبقري “توماس كون” عام 1962م، الذي أعاد النظر في فكرة التراكمية التي سيطرت على مجالات العلوم المختلفة، وفتح المجال أمام أبنية شارخة في جسم المعارف، تؤدي إلى ضرورة البحث في أبنية شارحة جديدة([3])، تقود، بدورها، إلى ثورة في الفهم، لأنّ الثورات العلمية، مثل تلك التي أطلقها “أينشتاين” على سبيل المثال، هي التي تقطع المسار التقليدي في البحث وتُجدد أنماط التحقق والاستكشاف.

نتج عن تقرير “سلون” بلورة نموذج تخطيطي للحقول المعرفية التي يتشكل منها العلم المعرفي العام، اُشتُهر باسم مسدس Hexagon العلاقات المعرفية البينية بين العلوم([4]):

مسدس Hexagon العلاقات المعرفية البينية
مسدس Hexagon العلاقات المعرفية البينية
مسدس العلاقات المعرفية البينية كما في تقرير "سلون" Sloan 1978
مسدس العلاقات المعرفية البينية كما في تقرير “سلون” Sloan 1978

حيث تُمثل الخطوط المتصلة العلاقات القوية بين العلوم المطروحة بالمخطط، والخطوط المتقطعة تُمثل العلاقات الأقل قوة بينها. ويتضح من المخطط مركزية علوم الأعصاب واللسانيات وعلم النفس ضمن هذه الصلات بمختلف درجات ترابطها.

يُبين “ميلر”- وهو أحد العلماء الذين قاموا بصياغة التقرير([5])– سيرورة تشكل الطبيعة البينية للعلوم المعرفية وتداخلها العلمي، على نحو ما قال([6]): ” كانت علوم السيبرناطيقا([7]) Cybernetics تستخدم المفاهيم التي طورتها المعلوماتية لأجل نمذجة وظائف الدماغ التي كشف عنها علم الأعصاب. وبطريقة مماثلة، كان فَرعَا اللسانيات والمعلوماتية مرتبطين من خلال اللسانيات الحاسوبية. واتصلت اللسانيات بعلم النفس من خلال اللسانيات النفسية. وارتبطت الأنثروبولوجيا بعلم الأعصاب من خلال الدراسات المتعلقة بتطور الدماغ، إلى آخر ذلك التشابك. واليوم أعتقد أنّ كل الروابط الخمسة عشر الممكنة قد مُثّلت من خلال أبحاث لها وجاهتها، وأنّ الروابط الأحد عشر التي رأيناها قائمة عام 1978م قد تم تعزيزها.”

وقد تطوّرت البحوث لاحقًا بعد هذا التقرير، وانطلقت العلوم البينية انطلاقًا غير محدود، وأصبحت دراسة اللسانيات بمعزل عن هذه التخصصات كمن يدرس الكيمياء من غير معمل
أو بدون محاليل.


([1]) George Miller, Samuel Jay Keyser and Edward Walker.

وقد روجع التقرير من خلال لجنة أخرى خبيرة، ونتج عنه برنامج للمِنح العلمية لجامعات كثيرة، يُشترط فيها الطبيعة البينية للدراسات المقدمة. وقُدّمت إحدى هذه المنح لعالم الأعصاب الشهير “مايكل جازانيجا”، ولكلية طب “كورنيل” Cornell. وأصبح كثير من العلماء- منذ ذلك الحين- قادرين على العمل ضمن أكثر من حقل معرفي، كما ازدهرت حلقات النقاش والندوات Colloquia and Symposia حول مختلف القضايا العلمية ذات الصبغة أو ذات الطبيعة البينية. Miller, Ibid, P 143

([2]) Miller, Ibid, P 143.

([3]) هو علم الترابط بين الإنسان والآلة، وموضوع السيبرناطيقا هو دراسة السيطرة والترابط والاتصال في الإنسان والآلة. وجّهت السيبرناطيقا العلم والعالم وقضت علي المنطق التحليلي، وأصبح تضافر العلوم وتكاملها جميعًا من الفيزياء والكيمياء وعلم الأحياء وعلم النفس والعلوم الاجتماعية … إلخ، هو أساس المعرفة. للتفاصيل: عبد الرحمن طعمة: البحث المعرفي المعاصر، نماذج من فلسفة اللغة وإبستمولوجيا العلوم، دار النابغة، مصر،
طـ 1، 2018، النموذج الأول من الكتاب.


([4]) كل بنية نظامية في إبستمولوجيا العلوم تنطوي على بنية شارخة غير مفهومة، لكنها موجودة داخل النمط؛ وهذه البنية الشارخة هي التي تَضمَنُ- إبستمولوجيًّا- استمرارية الظاهرة العلمية والكونية عمومًا، فلا شيء كامل؛ فدومًا هناك شيء غير مفهوم داخل النظام، هذا الشيء يتسع أكثر فأكثر حتى يتحول من بنية شارخة إلى بنية شارحة تُوضح الغموض، من ثم ينطوي على بنية شارخة جديدة، وهكذا. وهذا هو منشأ النظريات وتطويرها وتفسيرها … إلخ.

([5]) لتفاصيل حول تقرير سلون ونشأة فكرة هذا المخطط:

Miller, George A: The Cognitive Revolution; A Historical Perspective, TRENDS in Cognitive Sciences, Vol.7, No.3, Elsevier, 2003, Pp 142-143.


([6) للمزيد من التفاصيل:

De Mey, M: The Cognitive Paradigm, University of Chicago Press, 4th ed, 1992, P 5.


([7]) محمد الوحيدي: اللسانيات وعلم المعرفة، اللغة وبنية المعرفة البشرية، مجلة عالم الفكر، الكويت،
     العدد 175، سبتمبر، 2018، ص 173. بتصرف. وللمزيد، عبد الرحمن طعمة، وأحمد عبد المنعم: النظرية اللسانية العرفانية، دراسات إبستمولوجية، دار رؤية للنشر، القاهرة، طــ 1، 2019.

د. عبد الرحمن طعمة

أستاذ اللسانيات والدراسات الثقافية المقارنة، كلية الآداب، جامعة القاهرة

مقالات ذات صلة

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
زر الذهاب إلى الأعلى